صورة اليهود في رواية فلسطينية تنتسب الى أدب انتفاضة الاقصى
صفحة 1 من اصل 1
صورة اليهود في رواية فلسطينية تنتسب الى أدب انتفاضة الاقصى
ارتبطت الكتابة عن اليهود في الأدب الفلسطيني بالصراع العربي اليهودي، وكانت دائما صدى له، ومرآة تعكس مجرياته؛ فرغم وجود اليهود على أرض فلسطين قبل وعد بلفور، لا تظهر صورتهم في الأدب الفلسطيني- كجماعة مختلفة- إلا بعده؛ ذاك أن وجودهم كأقلية دينية لم يكن ليؤرق الكاتب الفلسطيني الذي لم ير فيهم خطرا إلا بعد ظهور الحركة الصهيونية، وأهدافها الرامية إلى تأسيس وطن قومي في فلسطين. وقد اختلف الكتاب في تناولهم لشخصية اليهودي باختلاف مراحل الصراع معه، فعندما كان اللقاء به ممكنا بعد وعد بلفور وحتى 1948، وجدنا من ميز بين يهودي غربي وآخر شرقي، وبين يهودي وصهيوني كما فعل "وديع البستاني" في بعض أشعاره [1]، كما وجدنا من اتخذ موقفا معاديا من اليهود كلهم معتبرهم أعداءه بالمطلق.
وقد تأثرت الكتابة الفلسطينية عن اليهود بما كتب عنهم في الآداب الأوروبية، واستعارت بعض ما وصفوا به من حب للمال وفعل أي شيء للحصول عليه، دون تبكيت ضمير أو شعور بالذنب، كما ورد عن (شيلوك) في مسرحية "تاجر البندقية" لـ(شكسبير)، وهو ما بدا واضحا في رواية "الوارث" لـ"خليل بيدس" 1920، ورواية "في السرير" لـ"محمد العدناني" 1946، إضافة إلى وصف اليهود بعدم الاندماج مع غيرهم، الأمر الذي تناوله "نبيل خوري" في الجزء الثالث " القناع" من "ثلاثية فلسطين" [2].
ولا يعدم المرء في هذه الفترة وجود كتاب صوروا اليهودي إنسانا له حياته، وعمدوا إلى إبراز جانب من هذه الحياة، فبدا إيجابيا تارة، وسلبيا طورا، كما فعل "نجاتي صدقي" الذي صور الواقع كما هو، ولم يسقط رؤاه الفكرية عليه كما في قصتي "شمعون بوزاجلو" و"العابث" [3]. وبين عامي 1948-1967، وبعد تأسيس اليهود دولتهم، اقتصر اللقاء اليهودي الفلسطيني على المصانع الإسرائيلية، حيث الفلسطيني عامل، واليهودي صاحب عمل يكيل له الشتائم، يجد المرء نفسه في هذه الفترة أمام نوعين من الأدباء على اعتبار المكان، أدباء الداخل، الذين بقوا في مدنهم وقراهم، وحملوا الهوية الإسرائيلية، وأدباء المنفى. وبينما كتب أدباء الداخل بتحفظ وميل نحو الرمز خوفا من السلطات الإسرائيلية، كما فعل "توفيق فياض" في مسرحية "بيت الجنون" [4]، تمتع أدباء المنفى بقسط من الحرية عبروا فيه عن مشاعرهم القومية التي استعرت تأثرا بالمرحلة الناصرية.
ورغم عثورنا في هذه الفترة وما بعدها على نماذج إيجابية وأخرى سلبية، ظل الكتّاب أسرى الحرب القومية بين العرب واليهود، فلم يستطيعوا خلق شخصية إسرائيلية واقعية؛ إذ أن أعمالهم كانت تهدف إلى الدعاية، حيث صوروا الإسرائيلي فيها جنديا في جيش العدو لا ملامح فردية له [5].
وقد عني الكتاب الفلسطينيون بالخلافات الطائفية في المجتمع اليهودي، والتمييز العنصري بين اليهود الشرقيين والغربيين، فصوروا اليهودي الشرقي متعاطفا مع العرب، لكنه لا يجرؤ على البوح بذلك، وهو ما فعله "عبد الرحمن الشرقاوي" في مسرحيته "وطني عكا" عندما وصف اليهودي الشرقي "سعد هارون" [6]، كما عرضوا في قصصهم ليهود قادمين من بلاد عربية، يشعرون بالغربة وعدم الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، مثل "راحيل" التي تتمنى زيارة العراق ولو ليوم واحد، في قصة "باكرا في هدأة الصباح" لـ"رياض بيدس" [7].
وبعد هزيمة 67 التي كشفت الحقائق للفلسطيني، مالت قصص هذه الفترة وما بعدها إلى تسييس الشخصيات اليهودية وتصويرها وفقا لمواقفها السياسية، وليس وفقا لإنسانيتها ومكوناتها الشخصية من الداخل [8]. وبعد انحسار اللقاء مع اليهود إثر الانتفاضة الأولى 1987، واقتصاره على اللقاء العسكري المتوتر مع الجندي المدجج بالسلاح، راح الأدب يصور مجريات هذه الفترة، واصفا معاناة الفلسطيني على أيدي الجنود والضباط مبينا قسوة هذا العدو ووحشيته الذي يقمع الصغار والكبار [9]، كما ألغت هذه الانتفاضة أية صداقة كانت بين الفلسطينيين واليهود، وجعلت كلا منهما في مواجهة الآخر، الأمر الذي صورته قصص "غريب عسقلاني" "زائر الفجر" و "وردة بيضاء من اجل ديفيد" [10]، حيث الصورة السلبية لليهود هي الطاغية في هذا الأدب.
ولم تبرز النصوص المنجزة بعد اتفاقات السلام في (مدريد) و (اوسلو) صورة إيجابية لليهود، كما هو متوقع، بل عبرت عن خيبة الثوري والمثقف الفلسطيني، واصطدامه بالواقع، وكأن لسان حاله يرفض هذه النتيجة، فراح يعبر في أدبه عن عدم إمكانية التعايش مع اليهود الذين رسم لهم صورة سلبية، كما فعل "أحمد حرب" في روايته "بقايا" 1996، و "يحيى يخلف" في روايته " نهر يستحم في البحيرة" [11].
أمام هذا الاختلاف والتنوع في صورة الآخر، يتساءل المرء عن صورته في أدب انتفاضة الأقصى، إحدى أهم مراحل الصراع معه. فكيف بدت صورة اليهود في أدب مرحلة كان العنف سيدها؟ هل اختلفت عنها في المراحل السابقة، أم شابهتها؟ سنحاول تجلية هذا من خلال رواية "ستائر العتمة" لـ"وليد الهودلي" لنبين صفات الآخر كما وردت في مرآة الأنا وفي مرآة الآخر نفسه، مع الإشارة إلى المصادر التي استقى منها "الهودلي" صوره.
مصادر الصورة
تعكس مرآة "عامر" الشخصية الرئيسة في الرواية، القسم الأكبر من صورة الآخر، إضافة إلى ما تعكسه مرآة كل من "نبيل" و "إبراهيم" والسارد، حيث يسجن "عامر" ورفاقه في انتفاضة الأقصى، كما سجن في الانتفاضة الأولى، ومن خلال علاقته المباشرة مع المحقق يكوِّنُ صورة عنه، ويعممها على جنس اليهود كافة، مدعما قوله بما ورد عنهم في القرآن، وكأنه بلقائه بهم يؤكد ذاك الذي ترسخ لديه مسبقا، كما يأتي على صفات أوردها كتاب وأدباء سابقون، نشير إليها في وقتها.
الآخر في مرآة الأنا
ترد صورة الآخر في الرواية من خلال حديث عن اليهود عامة، حيث يختزل "عامر" كل جنسهم في صفات محددة، ويصف المحكمة الإسرائيلية وحركات السلام في إسرائيل، ثم يخصص الحديث عن المحقق اليهودي؛ إذ يميز بين محقق وآخر من حيث شكله ونهوضه بجانب معين من جوانب التحقيق، ففي الرواية خمسة محققين ومحققة، إضافة إلى طبيب السجن و(هرتسل) الذي يصفه عامر بالحاخام الأكبر، بيد أنه ورغم هذا التمييز الذي يوهم بالفردية ويجعل كلا من هؤلاء شخصية إنسانية، يخلط "الهودلي" من خلال "عامر" بين الشخصية الإنسانية، والنماذج البشرية، وذلك عندما يستعيض عن الشخصية ببعض الصفات الخلقية المجردة التي تمثل الجوانب الواضحة منها [12]؛ إذ ينعت المحققين كافة بصفات تكاد تكون واحدة، وكأن التخصيص يحمل في طياته تعميما.
أولا: اليهود عامة:
لا يفرق "الهودلي" من خلال السارد والبطل بين يهودي وصهيوني وإسرائيلي، فهي مصطلحات لا تضيف سوى تنويع لفظي لآخر عدو بالدرجة الأولى، فاليهود محتلون صهاينة [13] وحاقدون [14] بل هم أشباه البشر، وفي تسميتهم شتم لهم "يهود.. كلمة لا تحتاج إلى تعليق.." [15] مستهترون بطموحات وآمال الشعب الفلسطيني [16]، قتلة ومجرمون، يهلكون الحرث والنسل [17]، وهي صفات أطلقها عليهم "محمد العدناني" في قصيدة نظمها إثر مذبحة دير ياسين [18]. وهم أيضا خبثاء ماكرون [19]، كافرون [20] وأعداء الله [21]. وهم أنكاد [22] وقطاع طرق [23]، شياطين وشرذمة وشذاذ الآفاق والأديان [24]. ويعتمد "عامر"، في وصفه لهم، على ما ورد عنهم في القرآن مدعما رأيه بذكر الآيات، فيشير إلى حرصهم على الحياة، وخوفهم من الموت، ونكثهم للعهد وعدم التزامهم به، ويؤكد ذلك بعدم التزامهم باتفاقات السلام التي تمت على أعلى مستوى، وبشهادات دول عظمى [25].
كما يستعير السارد ما ورد عنهم في القرآن من تحايلهم على صيد الحيتان يوم السبت ليربط بين ذلك وبين حملات الاعتقال التي يقومون بها في سبتهم [26].
ورغم أنهم يهود ولا يستبعد عنهم أي شيء، يؤكد "عامر" عدم استطاعتهم انتهاك عرضه " أنا أعلم أنهم لا يجرؤون على الاقتراب من عرض امرأة" رغم أنهم يهود، ولا أستبعد عن اليهود أي شرّ " [27].
ثانيا: المحقق اليهودي:
ويحتل وصفه الحيز الأكبر في رواية تصور قمع السجان، وانتهاكه لآدمية الإنسان، وذلك على لسان سجين ذاق ويلات السجن، ولأنه ينطلق من تجربة ذاتية واقعية، يميز بين المحققين، ويعطي وصفا لكل منهم، ثم يعمم ما رآه فيهم على جميع المحققين اليهود.
يذكر "عامر" أربعة محققين تناوبوا عليه وخامسا لا اسم له، وهم كابتن (داني) وهو رجل أصلع تجاوز الأربعين [28]، ذو ابتسامته صفراء، أبرص الوجه وله أنف مدبب، مندفع إلى الأمام وعيونه خضراء، ويمتاز بأسلوبه الناعم مع "عامر" [29] وكابتن (بنيامين (ييني)) وهو بدين وقصير، غائر الأنف، بارز العينين، لصوته رنين وجلبة [30]. ثم (إيلان) الذي تجاوز الخمسين، ذو السحنة الشرقية، قمحي اللون، دائري الوجه، صوته هادئ ورصين، وهو شديد العصبية، كثير الوعيد والتهديد [31]؛ إذ يهدد "عامر" بسجن زوجته وأمه والتحقيق معهن، ليس لأنهن شريكاته في النضال، بل للضغط عليه، "كيف بك يا عامر، وأنت تسمع صرخات زوجتك، وهي تحت مطارق التحقيق، ترجونا حينها، تسترحمنا.." [32] يجيد العربية وعلى دراية تامة بالقرآن؛ إذ يكثر من ذكر آياته [33]، وذكر الأمثال العربية [34]، وهو مراوغ يعد "عامر" بأن لا يخبر أحدا باعترافه. أما الرابع فهو كابتن (شلومو) وهو شاب رفيع فارع الطول، محدودب الظهر، عيناه زرقاوان، وجهه أبيض، طويل اليدين والرقبة، وصوته رفيع [35]، هو العدو الضاحك [36]، وصاحب النكتة الباردة، والذئب الذي يجيد إخفاء أنيابه [37]، والشيطان الأسود [38]، والأفعى الملساء [39]، ويهدف كما يرى السارد إلى " إشغال ذهن عامر بأي شيء.. المهم أن لا تغمض عيناه، وأن تبقى أعصابه متحفزة " [40]، وهو ماكرٌ و خبيث [41]، يخرج "عامر" إلى الشمس بحجة التحقيق معه في الهواء الطلق، فيريه لصديقه "إبراهيم" في جلسة ودية ليدخل الشكوك إلى صدر الأخير [42]، وهو كما (بيني) على دراية بالقرآن [43]، والأمثال العربية [44].
أما المحقق الخامس الذي التقاه "عامر" في سجن عسقلان، فلا يذكر اسمه مكتفيا بوصفه فهو قطعة لحمية جامدة عريضة، مقطب الجبين، عابس الوجه، يتكلم الإجرام في وجهه [45].
فيما عدا شخصيات المحققين تطالعنا شخصية المدعي العام العسكري ، في المحكمة، والقاضي، حيث يراهم "عامر" مجرمين كالقرود مع فارق البراءة التي تلمع في أعين القرود، والشرر المتطاير من أعينهم [46]. كما يورد "عامر" صورة ل (هرتسل) الذي يعلقون صورته في مكاتبهم، مؤكدا انه حاخامهم الأكبر، صاحب النظرات التي تصب المقت والعذاب ولا تعرف سوى الموت الزؤام الذي يهددون به [47]، كما يؤكد إبراهيم أن نظراته تمتلئ شماتة وحقدا [48].
أما طبيب السجن فهو من الأطباء الروس الذين لفظتهم البطالة [49]، رجل من بني الأصفر، باهت الوجه، مترهل الوجنتين، عيناه تدوران بلا انتظام، ينفذ ما يؤمر به.
ويورد "الهودلي" على لسان "عامر" صورة للمحققة، المجندة الإسرائيلية، يكرر من خلالها الفكرة القديمة القائلة بتوظيف اليهود لبناتهم من أجل تحقيق أهدافهم، وابتزاز المعلومات من الشباب العربي؛ إذ وظفها المحققون لإغراء "عامر" وإسقاطه، وابتزاز المعلومات منه [50]، وهو الدور الذي لعبته (راشيل) في مسرحية "زهرة من دم" لـ"سهيل إدريس" و (راحيل) في مسرحية "شمشون ودليلة" لـ"معين بسيسو" [51].
ورغم إعطائه وصفا خاصا لكل محقق يضعهم جميعا في خانة واحدة؛ إذ يمثلون مع غيرهم من المحققين، الفئة التي يصب عليها جام غضبه، وينعتها بأقسى الصفات، فالمحققون أوغاد [52]، يتناوبون على السجين للحيلولة دون نومه لإضعاف نفسيته [53] وإيصاله إلى الإعياء والهذيان [54] لحصره في الدائرة التي يبغون الوصول إليها [55]، وجوههم قطع ظلامية هتكت حرمة الأنوار [56]، كاذبون وكلماتهم جوفاء، يراوغون كما الثعالب للوصول إلى اعتراف يزيدهم إصرارا على طلب المزيد [57].
ولهول ما يلقاه "عامر" على أيديهم يخرجهم من صنف البشر "وأنتم مخلوقات تدعي انتسابها إلى صنف البشر ظلما وزورا " [58]، ويراهم وحوشا كاسرة، [59] ومخالب بشرية. لا شعور لديهم ولا يرجى خيرا من ورائهم، [60] يبذلون قصارى جهدهم للتفريق بين الأصدقاء وإشاعة الفتنة بينهم وفقدان الثقة، فيوهمون كل واحد باعتراف الآخر عليه" يتسلل الأعداء، وينزغون نزغهم بيننا" [61]، وهي صفات وردت لهم في القرآن [62].
ويربط "عامر" بين ما يفعله المحققون اليوم؛ إذ يلتفون حوله لنزع اعترافه، وإضعاف روحه، وبين ما فعله زعماء بني قريظة والنظير وقينقاع؛ إذ اجتمعوا للتآمر على الدعوة الإسلامية مؤكدا أن لا فرق بين يهود اليوم والأمس [63]، فمكرهم متوارث [64].
وقد تأثرت الكتابة الفلسطينية عن اليهود بما كتب عنهم في الآداب الأوروبية، واستعارت بعض ما وصفوا به من حب للمال وفعل أي شيء للحصول عليه، دون تبكيت ضمير أو شعور بالذنب، كما ورد عن (شيلوك) في مسرحية "تاجر البندقية" لـ(شكسبير)، وهو ما بدا واضحا في رواية "الوارث" لـ"خليل بيدس" 1920، ورواية "في السرير" لـ"محمد العدناني" 1946، إضافة إلى وصف اليهود بعدم الاندماج مع غيرهم، الأمر الذي تناوله "نبيل خوري" في الجزء الثالث " القناع" من "ثلاثية فلسطين" [2].
ولا يعدم المرء في هذه الفترة وجود كتاب صوروا اليهودي إنسانا له حياته، وعمدوا إلى إبراز جانب من هذه الحياة، فبدا إيجابيا تارة، وسلبيا طورا، كما فعل "نجاتي صدقي" الذي صور الواقع كما هو، ولم يسقط رؤاه الفكرية عليه كما في قصتي "شمعون بوزاجلو" و"العابث" [3]. وبين عامي 1948-1967، وبعد تأسيس اليهود دولتهم، اقتصر اللقاء اليهودي الفلسطيني على المصانع الإسرائيلية، حيث الفلسطيني عامل، واليهودي صاحب عمل يكيل له الشتائم، يجد المرء نفسه في هذه الفترة أمام نوعين من الأدباء على اعتبار المكان، أدباء الداخل، الذين بقوا في مدنهم وقراهم، وحملوا الهوية الإسرائيلية، وأدباء المنفى. وبينما كتب أدباء الداخل بتحفظ وميل نحو الرمز خوفا من السلطات الإسرائيلية، كما فعل "توفيق فياض" في مسرحية "بيت الجنون" [4]، تمتع أدباء المنفى بقسط من الحرية عبروا فيه عن مشاعرهم القومية التي استعرت تأثرا بالمرحلة الناصرية.
ورغم عثورنا في هذه الفترة وما بعدها على نماذج إيجابية وأخرى سلبية، ظل الكتّاب أسرى الحرب القومية بين العرب واليهود، فلم يستطيعوا خلق شخصية إسرائيلية واقعية؛ إذ أن أعمالهم كانت تهدف إلى الدعاية، حيث صوروا الإسرائيلي فيها جنديا في جيش العدو لا ملامح فردية له [5].
وقد عني الكتاب الفلسطينيون بالخلافات الطائفية في المجتمع اليهودي، والتمييز العنصري بين اليهود الشرقيين والغربيين، فصوروا اليهودي الشرقي متعاطفا مع العرب، لكنه لا يجرؤ على البوح بذلك، وهو ما فعله "عبد الرحمن الشرقاوي" في مسرحيته "وطني عكا" عندما وصف اليهودي الشرقي "سعد هارون" [6]، كما عرضوا في قصصهم ليهود قادمين من بلاد عربية، يشعرون بالغربة وعدم الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، مثل "راحيل" التي تتمنى زيارة العراق ولو ليوم واحد، في قصة "باكرا في هدأة الصباح" لـ"رياض بيدس" [7].
وبعد هزيمة 67 التي كشفت الحقائق للفلسطيني، مالت قصص هذه الفترة وما بعدها إلى تسييس الشخصيات اليهودية وتصويرها وفقا لمواقفها السياسية، وليس وفقا لإنسانيتها ومكوناتها الشخصية من الداخل [8]. وبعد انحسار اللقاء مع اليهود إثر الانتفاضة الأولى 1987، واقتصاره على اللقاء العسكري المتوتر مع الجندي المدجج بالسلاح، راح الأدب يصور مجريات هذه الفترة، واصفا معاناة الفلسطيني على أيدي الجنود والضباط مبينا قسوة هذا العدو ووحشيته الذي يقمع الصغار والكبار [9]، كما ألغت هذه الانتفاضة أية صداقة كانت بين الفلسطينيين واليهود، وجعلت كلا منهما في مواجهة الآخر، الأمر الذي صورته قصص "غريب عسقلاني" "زائر الفجر" و "وردة بيضاء من اجل ديفيد" [10]، حيث الصورة السلبية لليهود هي الطاغية في هذا الأدب.
ولم تبرز النصوص المنجزة بعد اتفاقات السلام في (مدريد) و (اوسلو) صورة إيجابية لليهود، كما هو متوقع، بل عبرت عن خيبة الثوري والمثقف الفلسطيني، واصطدامه بالواقع، وكأن لسان حاله يرفض هذه النتيجة، فراح يعبر في أدبه عن عدم إمكانية التعايش مع اليهود الذين رسم لهم صورة سلبية، كما فعل "أحمد حرب" في روايته "بقايا" 1996، و "يحيى يخلف" في روايته " نهر يستحم في البحيرة" [11].
أمام هذا الاختلاف والتنوع في صورة الآخر، يتساءل المرء عن صورته في أدب انتفاضة الأقصى، إحدى أهم مراحل الصراع معه. فكيف بدت صورة اليهود في أدب مرحلة كان العنف سيدها؟ هل اختلفت عنها في المراحل السابقة، أم شابهتها؟ سنحاول تجلية هذا من خلال رواية "ستائر العتمة" لـ"وليد الهودلي" لنبين صفات الآخر كما وردت في مرآة الأنا وفي مرآة الآخر نفسه، مع الإشارة إلى المصادر التي استقى منها "الهودلي" صوره.
مصادر الصورة
تعكس مرآة "عامر" الشخصية الرئيسة في الرواية، القسم الأكبر من صورة الآخر، إضافة إلى ما تعكسه مرآة كل من "نبيل" و "إبراهيم" والسارد، حيث يسجن "عامر" ورفاقه في انتفاضة الأقصى، كما سجن في الانتفاضة الأولى، ومن خلال علاقته المباشرة مع المحقق يكوِّنُ صورة عنه، ويعممها على جنس اليهود كافة، مدعما قوله بما ورد عنهم في القرآن، وكأنه بلقائه بهم يؤكد ذاك الذي ترسخ لديه مسبقا، كما يأتي على صفات أوردها كتاب وأدباء سابقون، نشير إليها في وقتها.
الآخر في مرآة الأنا
ترد صورة الآخر في الرواية من خلال حديث عن اليهود عامة، حيث يختزل "عامر" كل جنسهم في صفات محددة، ويصف المحكمة الإسرائيلية وحركات السلام في إسرائيل، ثم يخصص الحديث عن المحقق اليهودي؛ إذ يميز بين محقق وآخر من حيث شكله ونهوضه بجانب معين من جوانب التحقيق، ففي الرواية خمسة محققين ومحققة، إضافة إلى طبيب السجن و(هرتسل) الذي يصفه عامر بالحاخام الأكبر، بيد أنه ورغم هذا التمييز الذي يوهم بالفردية ويجعل كلا من هؤلاء شخصية إنسانية، يخلط "الهودلي" من خلال "عامر" بين الشخصية الإنسانية، والنماذج البشرية، وذلك عندما يستعيض عن الشخصية ببعض الصفات الخلقية المجردة التي تمثل الجوانب الواضحة منها [12]؛ إذ ينعت المحققين كافة بصفات تكاد تكون واحدة، وكأن التخصيص يحمل في طياته تعميما.
أولا: اليهود عامة:
لا يفرق "الهودلي" من خلال السارد والبطل بين يهودي وصهيوني وإسرائيلي، فهي مصطلحات لا تضيف سوى تنويع لفظي لآخر عدو بالدرجة الأولى، فاليهود محتلون صهاينة [13] وحاقدون [14] بل هم أشباه البشر، وفي تسميتهم شتم لهم "يهود.. كلمة لا تحتاج إلى تعليق.." [15] مستهترون بطموحات وآمال الشعب الفلسطيني [16]، قتلة ومجرمون، يهلكون الحرث والنسل [17]، وهي صفات أطلقها عليهم "محمد العدناني" في قصيدة نظمها إثر مذبحة دير ياسين [18]. وهم أيضا خبثاء ماكرون [19]، كافرون [20] وأعداء الله [21]. وهم أنكاد [22] وقطاع طرق [23]، شياطين وشرذمة وشذاذ الآفاق والأديان [24]. ويعتمد "عامر"، في وصفه لهم، على ما ورد عنهم في القرآن مدعما رأيه بذكر الآيات، فيشير إلى حرصهم على الحياة، وخوفهم من الموت، ونكثهم للعهد وعدم التزامهم به، ويؤكد ذلك بعدم التزامهم باتفاقات السلام التي تمت على أعلى مستوى، وبشهادات دول عظمى [25].
كما يستعير السارد ما ورد عنهم في القرآن من تحايلهم على صيد الحيتان يوم السبت ليربط بين ذلك وبين حملات الاعتقال التي يقومون بها في سبتهم [26].
ورغم أنهم يهود ولا يستبعد عنهم أي شيء، يؤكد "عامر" عدم استطاعتهم انتهاك عرضه " أنا أعلم أنهم لا يجرؤون على الاقتراب من عرض امرأة" رغم أنهم يهود، ولا أستبعد عن اليهود أي شرّ " [27].
ثانيا: المحقق اليهودي:
ويحتل وصفه الحيز الأكبر في رواية تصور قمع السجان، وانتهاكه لآدمية الإنسان، وذلك على لسان سجين ذاق ويلات السجن، ولأنه ينطلق من تجربة ذاتية واقعية، يميز بين المحققين، ويعطي وصفا لكل منهم، ثم يعمم ما رآه فيهم على جميع المحققين اليهود.
يذكر "عامر" أربعة محققين تناوبوا عليه وخامسا لا اسم له، وهم كابتن (داني) وهو رجل أصلع تجاوز الأربعين [28]، ذو ابتسامته صفراء، أبرص الوجه وله أنف مدبب، مندفع إلى الأمام وعيونه خضراء، ويمتاز بأسلوبه الناعم مع "عامر" [29] وكابتن (بنيامين (ييني)) وهو بدين وقصير، غائر الأنف، بارز العينين، لصوته رنين وجلبة [30]. ثم (إيلان) الذي تجاوز الخمسين، ذو السحنة الشرقية، قمحي اللون، دائري الوجه، صوته هادئ ورصين، وهو شديد العصبية، كثير الوعيد والتهديد [31]؛ إذ يهدد "عامر" بسجن زوجته وأمه والتحقيق معهن، ليس لأنهن شريكاته في النضال، بل للضغط عليه، "كيف بك يا عامر، وأنت تسمع صرخات زوجتك، وهي تحت مطارق التحقيق، ترجونا حينها، تسترحمنا.." [32] يجيد العربية وعلى دراية تامة بالقرآن؛ إذ يكثر من ذكر آياته [33]، وذكر الأمثال العربية [34]، وهو مراوغ يعد "عامر" بأن لا يخبر أحدا باعترافه. أما الرابع فهو كابتن (شلومو) وهو شاب رفيع فارع الطول، محدودب الظهر، عيناه زرقاوان، وجهه أبيض، طويل اليدين والرقبة، وصوته رفيع [35]، هو العدو الضاحك [36]، وصاحب النكتة الباردة، والذئب الذي يجيد إخفاء أنيابه [37]، والشيطان الأسود [38]، والأفعى الملساء [39]، ويهدف كما يرى السارد إلى " إشغال ذهن عامر بأي شيء.. المهم أن لا تغمض عيناه، وأن تبقى أعصابه متحفزة " [40]، وهو ماكرٌ و خبيث [41]، يخرج "عامر" إلى الشمس بحجة التحقيق معه في الهواء الطلق، فيريه لصديقه "إبراهيم" في جلسة ودية ليدخل الشكوك إلى صدر الأخير [42]، وهو كما (بيني) على دراية بالقرآن [43]، والأمثال العربية [44].
أما المحقق الخامس الذي التقاه "عامر" في سجن عسقلان، فلا يذكر اسمه مكتفيا بوصفه فهو قطعة لحمية جامدة عريضة، مقطب الجبين، عابس الوجه، يتكلم الإجرام في وجهه [45].
فيما عدا شخصيات المحققين تطالعنا شخصية المدعي العام العسكري ، في المحكمة، والقاضي، حيث يراهم "عامر" مجرمين كالقرود مع فارق البراءة التي تلمع في أعين القرود، والشرر المتطاير من أعينهم [46]. كما يورد "عامر" صورة ل (هرتسل) الذي يعلقون صورته في مكاتبهم، مؤكدا انه حاخامهم الأكبر، صاحب النظرات التي تصب المقت والعذاب ولا تعرف سوى الموت الزؤام الذي يهددون به [47]، كما يؤكد إبراهيم أن نظراته تمتلئ شماتة وحقدا [48].
أما طبيب السجن فهو من الأطباء الروس الذين لفظتهم البطالة [49]، رجل من بني الأصفر، باهت الوجه، مترهل الوجنتين، عيناه تدوران بلا انتظام، ينفذ ما يؤمر به.
ويورد "الهودلي" على لسان "عامر" صورة للمحققة، المجندة الإسرائيلية، يكرر من خلالها الفكرة القديمة القائلة بتوظيف اليهود لبناتهم من أجل تحقيق أهدافهم، وابتزاز المعلومات من الشباب العربي؛ إذ وظفها المحققون لإغراء "عامر" وإسقاطه، وابتزاز المعلومات منه [50]، وهو الدور الذي لعبته (راشيل) في مسرحية "زهرة من دم" لـ"سهيل إدريس" و (راحيل) في مسرحية "شمشون ودليلة" لـ"معين بسيسو" [51].
ورغم إعطائه وصفا خاصا لكل محقق يضعهم جميعا في خانة واحدة؛ إذ يمثلون مع غيرهم من المحققين، الفئة التي يصب عليها جام غضبه، وينعتها بأقسى الصفات، فالمحققون أوغاد [52]، يتناوبون على السجين للحيلولة دون نومه لإضعاف نفسيته [53] وإيصاله إلى الإعياء والهذيان [54] لحصره في الدائرة التي يبغون الوصول إليها [55]، وجوههم قطع ظلامية هتكت حرمة الأنوار [56]، كاذبون وكلماتهم جوفاء، يراوغون كما الثعالب للوصول إلى اعتراف يزيدهم إصرارا على طلب المزيد [57].
ولهول ما يلقاه "عامر" على أيديهم يخرجهم من صنف البشر "وأنتم مخلوقات تدعي انتسابها إلى صنف البشر ظلما وزورا " [58]، ويراهم وحوشا كاسرة، [59] ومخالب بشرية. لا شعور لديهم ولا يرجى خيرا من ورائهم، [60] يبذلون قصارى جهدهم للتفريق بين الأصدقاء وإشاعة الفتنة بينهم وفقدان الثقة، فيوهمون كل واحد باعتراف الآخر عليه" يتسلل الأعداء، وينزغون نزغهم بيننا" [61]، وهي صفات وردت لهم في القرآن [62].
ويربط "عامر" بين ما يفعله المحققون اليوم؛ إذ يلتفون حوله لنزع اعترافه، وإضعاف روحه، وبين ما فعله زعماء بني قريظة والنظير وقينقاع؛ إذ اجتمعوا للتآمر على الدعوة الإسلامية مؤكدا أن لا فرق بين يهود اليوم والأمس [63]، فمكرهم متوارث [64].
رد: صورة اليهود في رواية فلسطينية تنتسب الى أدب انتفاضة الاقصى
هم كتل بشرية حاقدة [65]، قتلة الأنبياء وشكل متطور من أشكال الشيطان [66]، زبانية [67]، يعذبون السجين، ويحرصون في الوقت ذاته على عدم ترك أثر للتعذيب [68]، لا عهد لهم ولا يلتزمون بوعد، صفقاتهم التي يعرضونها على السجين وهمية، وعروضهم مسرحية غير جيدة الإعداد لأنها مفضوحة من قبل "عامر" [69].
وهم دون الرجال [70] لا شرف لمهنتهم التي يمار سون شعائرها الملتوية بخبث ودهاء؛ [71] حيث يدخلون عليه مجندة تقوم بإغرائه بينما يلتقطون الصور، ثم يقومون بدبلجتها لتبدو فاضحة، ثم يهددون بنشرها، [72] الأمر الذي يؤكد عدم جرأتهم على فعله [73].
ولا يكتفون بتهم الحاضر بل ينبشون الماضي لإلصاق تهمة لسجين ما، فيسجن "توفيق" بتهمة انتمائه لتنظيم في الانتفاضة الأولى [74].
ويخترق المحققون صفوف المساجين لنزع اعترافاتهم من خلال العملاء (العصافير) حيث يبسّطون لهؤلاء شأن الخيانة كما يرى "توفيق" الذي حاولوا إسقاطه، ويؤكد "عامر" أنهم يغسلون دماغهم، ويميتون ضمائرهم" سوف يغسلون دماغه، ويميتون ضميره، ويكبلونه بالمزيد من المماسك التي يصعب الخلاص منها" [75]. ويستغلون اسم الصليب الأحمر، وثقة السجين بموظفيه، بجعل العصافير يمثلون أدوارهم كما فعلت فتاة الصليب مع "إبراهيم" "وتأكدت من خلال هذه العروض السخية بأنها "عصفور" جاءتني على صورة صليب" [76].
ويصل مكرهم إلى التنكر في زي رجال التنظيم، وإيهام السجين بأنهم القادة لانتزاع المعلومات منه، وهو ما فعلوه مع "إبراهيم" الذي صمد في مراحل التحقيق كلها، واعترف أمامهم [77] حيث قاموا بتسجيل اعترافه واعتبروه دليل إدانة [78].
كما يسخرون التكنولوجيا لتعذيب الإنسان، وانتزاع المعلومات منه، حيث ينشرون أجهزة تنصت في كل زنزانة، ويسجلون أقوال السجناء لتكون دليل إدانة ضدهم [79] كما يعرضون السجناء على جهاز كشف الكذب [80]، ويفتحون المكيّف في غرفة التحقيق على البارد حتى يتجمد السجين بردا، ثم يقلبونه إلى الحار كما فعلوا مع "إبراهيم" [81]. وهم فوق هذا يعرفون عادات خصمهم وتقاليده [82]. أما عن جولات التحقيق فلشدة قسوتها يصفها "عامر" بالجهنمية [83] حيث الحرمان من النوم والشبح لساعات طويلة [84]، أما وجبات الطعام فهي نحيفة [85]، والعلاج معدوم وإذا وجد لم يتعد الأكمول [86]، وإذا حضر الطبيب راح يهوِّل للسجين حالته، ويقرِّب الموت من نفسه ليثير خوفه كي يعترف [87].
حركات السلام اليهودية:
يورد "عامر" رأيا له في حركات السلام اليهودية، يؤكد فيه أنها حركات منافقة وكاذبة تدعي صنع السلام وحمايته، بينما تشارك فعليا في القضاء عليه، وفي صنع الإرهاب، "حركات السلام التي ما فتأت تتباكي على السلام الضائع، في نفس الوقت تشارك الآخرين في نتف ريش حمامة السلام المزعومة" [88].
الآخر في مرآة ذاته:
في رواية تعتمد على الحوار بين الأنا متمثلا في "عامر" والآخر متمثلا في المحققين الأربعة، يحرص الآخر على رسم صورة مشرفة لذاته أمام الفلسطيني، فيجعل نفسه بريئا ومسالما تارة، وقويا لا يرحم طورا، لترغيب "عامر" وترهيبه، بيد أن ما يصف به ذاته من براءة ليس سوى ادعاء وقناع زائف [89]، ينزعه لدى اجتماعه بأقرانه، لنجدنا أمام صورة نقيضة للأولى. ففي الرواية صورتان للآخر في مرآة ذاته أمام الفلسطيني، وأمام أقرانه.
الآخر في مرآة ذاته أمام الفلسطيني:
يقدم كل من المحققين الأربعة نفسه أمام "عامر" ويعرّف بذاته، فبينما يؤكد كابتن (داني) أنه يساري معتدل، يفضل المعتدل الفلسطيني على المتدين اليهودي [90]، وأنه ضد تعذيب السجناء، وهمه دعم المهتمين بالسلام [91]، والانفتاح والحوار مع الشرق الأوسط مؤكدا أنه والفلسطيني أبناء عمومة [92].
يؤكد (بيني) أنه لا يؤمن إلا بلغة العقل، ولا يتكلم بشيء إلا إذا ثبت بالبرهان القاطع، وأنه لا يحب إرهاق المساجين [93].
ويعتبر (إيلان) نفسه رجل المهمات الصعبة، ويرسم صورة لليهود عامة مؤكدا ان هدفهم خدمة السلام [94]، ومنع الإرهاب وسفك دماء بريئة جديدة [95]، يبرر بذلك سجنهم لـ"عامر" كما يرسم هذا صورة للمخابرات الإسرائيلية، تؤكد ما ورد في القرآن عن تعالي اليهود وغطرستهم بدعوى الأفضلية التي منحها الله لهم [96]، فالمخابرات الإسرائيلية "لا ترفع يدها ولا تسلم" [97]، وهي الغالبة وكفة "عامر" لن ترجح فيها أبدا [98]، ولا أحد يستطيع هزيمتها [99]، لا سيما الفلسطيني "غير معقول ان أسمع هذا من صرصور مثلك… سأسلخ جلدك عن عظمك" [100]، فهي لا تخطئ العنوان، وتعرف المجرم من غير المجرم، "نحن طاقم متخصص يعرف أين يوجد النفط، وكيف يستخرج" [101]، كما يؤكد ساخرا أنها ليست مخابرات دولة عربية لا تعرف إلا الخطأ [102]. أما (شلومو) الذي يعتبره المحققون "أبو الصفقات" [103]، فيدعي محبته للفرح والانبساط، وعدم تأييده للتعذيب في التحقيق، بل هو يساري ليبرالي حر، يؤيد السلام [104]، كما يدعي تأييده لقيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل تتعايشان معا في أمن وسلام، ويتمادى في مسالمته مؤكدا تأييده لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم، وعودة المهاجرين اليهود من حيث أتوا، ولما كان هذا حلا غير واقعي، كما يرى، يقترح عودتهم إلى غزة ويهودا والسامرة، حيث تقام دولتهم هناك [105].
ومزيدا من إقناع "عامر" يهاجم جهاز المخابرات مؤكدا قذارته [106]، "لا يوجد للإنسان عندهم أية قيمة.. تصور يا عامر يرفضون الأخذ بتوصيات الطبيب، وتحويلك إلى المشفى.. يا له من إجرام.." [107]، فهم بلا قلوب، كما يرى، لا يرحمون أحدا، يقتلون وهم يشربون الشاي، ويلوكون النكات الماجنة [108]. كما يذكر، إضعافا لمعنويات "عامر" الذي يعاني أزمة صحية [109]، قصة سجين مات في أيديهم.
أما دولة إسرائيل فتبدو صورتها إيجابية في مرآة (شلومو) "من مزايا دولة إسرائيل أنها دولة قانون؛ الكبير يخضع للقانون قبل الصغير" [110]. وبهذا يرسم المحققون لذواتهم صورة إيجابية لإقناع "عامر" بحسن نواياهم وتأييدهم للسلام، ولا يترددون خدمة لمصالحهم، وتبييضا لصفحتهم أمامه لدفعه للاعتراف، لا يترددون في ادعاء معارضتهم للمخابرات الإسرائيلية، ومهاجمة أسلوبها الإجرامي كما فعل (شلومو).
الآخر في مرآة ذاته أمام ذاته:
وإذا ما خلا المحققون إلى أنفسهم، خلعوا أقنعتهم، وبدوا على حقيقتهم، فيعترف (داني)، أن ما يفعله الجيش الإسرائيلي بعد أحداث انتفاضة الأقصى جرائم جعلت الوجه الحضاري لإسرائيل في خبر كان، ورغم اعتباره لما يفعله الفلسطينيون جرائم، يؤكد أنها تظل فردية، وفي أبعد حدودها تدخل ضمن تنظيم إرهابي، أما جرائم اليهود فجرائم دولة، "أما جرائمنا فهي جرائم دولة، ومؤسسة عسكرية" [111].
كما يشير (شلومو) إلى طبيعة اليهود، وما جبلوا عليه من نكث للعهود، وكذب وسعي وراء أهدافهم بأية وسيلة مهما كانت قبيحة، وذلك في معرض حديثه مع نفسه عن "عامر"، كما يتصوره السارد، " يعرف اليهود حق المعرفة. يعرف أن مواثيقنا سرعان ما ننقضها قبل أن يجف حبرها، هذا الذي يعده به "إيلان" هل سيكون صادقا بوعده؟ إنه الكذب الفاضح، لا تتورع عن أية وسيلة مهما كانت قبيحة.." [112].
وهكذا يبدو الآخر في مرآة ذاته كاذبا ومنافقا، مجرما وليس حمامة سلام كما يدعي.
المحكمة الإسرائيلية:
رغبة في تخويف "عامر" وتهديده، يرسم المحققون صورة سلبية للمحكمة الإسرائيلية، فيؤكد (داني) أنها تأخذ بقانون "تامير" أي أنها تحاكم السجين بناء على اعترافات الغير، وتقرير المحققين السري، فلا يشكل عدم اعترافه حائلا دون الحكم عليه، [113] وهو ما يقوله (إيلان) لـ"عامر" "سأكتب تقريرك السري للمحكمة بيدي هذه.. وحتى لو لم تعترف، فهذا لن يعني شيئا سوى تعبك وشقاك" [114]، الأمر الذي يؤكده "عامر" " المحكمة تأخذ باعترافات الغير" [115].
ولا تفرق هذه المحكمة بين التهم الحديثة والقديمة، بل تحاكم عليها جميعا كما يقول "عامر" لـ"توفيق" الذي يعتقل بتهمة تنظيمه في الانتفاضة الأولى، "محاكمهم لا تفرق بين القديم والحديث" [116].
أساليب التحقيق بين الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية:
بين الانتفاضة الأولى والثانية يغير المحققون أساليب التعذيب والقمع، فيلجأون في انتفاضة الأقصى إلى التعذيب النفسي بدل التعذيب الجسدي الذي كان سائدا في الانتفاضة الأولى، بهدف اتباع الأسلوب الأجدى والأكثر نفعا لهم كما يؤكد (داني) " لم تقتنع الجهات الرسمية بتغيير أسلوب العنف الجسدي بهذا العنف النفسي، إلا لأنّ هذا الأخير أفضل نجاعة وأحسن جدوى" [117]، الأمر الذي يؤكده "عامر" [118]، و"توفيق" أيضا "أتصور أنهم لهذا السبب استبدلوه لما له من نتائج عملية أفضل بالنسبة لهم [119].
ورغم أن أساليبهم سياط واحدة مهما تعددت كما يرى "عامر" "بالنسبة لنا فكلها سياط مهما تعددت ألوانها، والصمود يتطلب الاستعداد لها جميعا" [120]، رغم ذلك نجده يفضل التعذيب الجسدي، ويرى في التعذيب النفسي أمرّ وأقسى؛ فالضرب والركل والوخز والشبح الذي يجعله ينزف دما، ويتقطع ألما من القيد، أرحم من كلام المحققين الممل الذي يمنعه من النوم لأسبوع وأكثر، "إنها على مساوئها أرحم من هذا الكلام الممل وهذه السماجة ثقيلةُ البرودة وعفنة الرائحة" [121]، فيتمنى أمام ما يجده الآن من تحقيق بارد ولامبالاة قاتلة [122]؛ إذ يترك في الزنزانة أسبوعا كاملا دون تحقيق، "ها هم الأوغاد يتركونني في الزنزانة أسبوعا كاملا، وحدي دون تحقيق، ماذا يريدون من هذه اللعبة التي تسمى زنزانة" [123]، يتمنى عودة الأسلوب القديم لما فيه من مجال لإبراز البطولة، وإثارة لروح التحدي والعناد القاسي [124] "ليتهم يعودون للأسلوب القديم" [125].
ومن ضمن ما تغير استخدام النظارة السوداء في هذه الانتفاضة على عينيّ السجين عند نقله من مكان لآخر، بدل الكيس الأسود النتن الرائحة "أما هذه النظارة فهي أكثر تحضرا من ذاك الكيس.. مكر على صورة تطور وارتقاء.. كان قديما، يجره رجل المخابرات من أسفل الكيس، كما تجر الدابة.. اليوم يؤخذ باحترام مغلف بالخديعة" [126].
خاتمــة:
بعد رصد ملامح الآخر وتتبع صورته في هذه الرواية، نلاحظ أن حديث الأنا عنه يتصف بالآتي:
التعميم؛ إذ يعمم عامر الصفات التي توصل إليها من خلال لقائه المباشر مع المحققين، في أقبية السجن، على اليهود كلهم دون استثناء. التركيز على سلبيات الآخر وإبرازها؛ إذ تبدو صورته سلبية بالمطلق، فلا تعثر على صفة إيجابية واحدة، حيث لا يدع "عامر" لفظا قاسيا، أو شتيمة إلا وألحقها به.
ورغم ذلك يبدو الأمر مبررا؛ فلم يعرف "عامر" إلا المحقق الذي اكتشف من خلال تجربة مباشرة معه، مدى همجيته ووحشيته، فصور ما رأى، ووصف ما حدث في أقبية السجون، فما ذكره من وصف للآخر، لا يعد مبالغة أمام ما لاقاه من عذاب على يديه، بل هو تصوير واقع، ونقل حقيقة كما يؤكد "الهودلي" في أول روايته، إذ يوجه شكره لسجناء عسقلان و (هدريم) لما " لهم من فضل في إخراج هذه القصة الواقعية من قلب المحنة وصميم الواقع الأليم".
إضافة إلى أن هذه الصورة السلبية للآخر ليست مستغربة في فترة حرب وقتال، تصدّر فيها العنف والقتل وسفك الدماء مشهد صراعنا معه.
وهم دون الرجال [70] لا شرف لمهنتهم التي يمار سون شعائرها الملتوية بخبث ودهاء؛ [71] حيث يدخلون عليه مجندة تقوم بإغرائه بينما يلتقطون الصور، ثم يقومون بدبلجتها لتبدو فاضحة، ثم يهددون بنشرها، [72] الأمر الذي يؤكد عدم جرأتهم على فعله [73].
ولا يكتفون بتهم الحاضر بل ينبشون الماضي لإلصاق تهمة لسجين ما، فيسجن "توفيق" بتهمة انتمائه لتنظيم في الانتفاضة الأولى [74].
ويخترق المحققون صفوف المساجين لنزع اعترافاتهم من خلال العملاء (العصافير) حيث يبسّطون لهؤلاء شأن الخيانة كما يرى "توفيق" الذي حاولوا إسقاطه، ويؤكد "عامر" أنهم يغسلون دماغهم، ويميتون ضمائرهم" سوف يغسلون دماغه، ويميتون ضميره، ويكبلونه بالمزيد من المماسك التي يصعب الخلاص منها" [75]. ويستغلون اسم الصليب الأحمر، وثقة السجين بموظفيه، بجعل العصافير يمثلون أدوارهم كما فعلت فتاة الصليب مع "إبراهيم" "وتأكدت من خلال هذه العروض السخية بأنها "عصفور" جاءتني على صورة صليب" [76].
ويصل مكرهم إلى التنكر في زي رجال التنظيم، وإيهام السجين بأنهم القادة لانتزاع المعلومات منه، وهو ما فعلوه مع "إبراهيم" الذي صمد في مراحل التحقيق كلها، واعترف أمامهم [77] حيث قاموا بتسجيل اعترافه واعتبروه دليل إدانة [78].
كما يسخرون التكنولوجيا لتعذيب الإنسان، وانتزاع المعلومات منه، حيث ينشرون أجهزة تنصت في كل زنزانة، ويسجلون أقوال السجناء لتكون دليل إدانة ضدهم [79] كما يعرضون السجناء على جهاز كشف الكذب [80]، ويفتحون المكيّف في غرفة التحقيق على البارد حتى يتجمد السجين بردا، ثم يقلبونه إلى الحار كما فعلوا مع "إبراهيم" [81]. وهم فوق هذا يعرفون عادات خصمهم وتقاليده [82]. أما عن جولات التحقيق فلشدة قسوتها يصفها "عامر" بالجهنمية [83] حيث الحرمان من النوم والشبح لساعات طويلة [84]، أما وجبات الطعام فهي نحيفة [85]، والعلاج معدوم وإذا وجد لم يتعد الأكمول [86]، وإذا حضر الطبيب راح يهوِّل للسجين حالته، ويقرِّب الموت من نفسه ليثير خوفه كي يعترف [87].
حركات السلام اليهودية:
يورد "عامر" رأيا له في حركات السلام اليهودية، يؤكد فيه أنها حركات منافقة وكاذبة تدعي صنع السلام وحمايته، بينما تشارك فعليا في القضاء عليه، وفي صنع الإرهاب، "حركات السلام التي ما فتأت تتباكي على السلام الضائع، في نفس الوقت تشارك الآخرين في نتف ريش حمامة السلام المزعومة" [88].
الآخر في مرآة ذاته:
في رواية تعتمد على الحوار بين الأنا متمثلا في "عامر" والآخر متمثلا في المحققين الأربعة، يحرص الآخر على رسم صورة مشرفة لذاته أمام الفلسطيني، فيجعل نفسه بريئا ومسالما تارة، وقويا لا يرحم طورا، لترغيب "عامر" وترهيبه، بيد أن ما يصف به ذاته من براءة ليس سوى ادعاء وقناع زائف [89]، ينزعه لدى اجتماعه بأقرانه، لنجدنا أمام صورة نقيضة للأولى. ففي الرواية صورتان للآخر في مرآة ذاته أمام الفلسطيني، وأمام أقرانه.
الآخر في مرآة ذاته أمام الفلسطيني:
يقدم كل من المحققين الأربعة نفسه أمام "عامر" ويعرّف بذاته، فبينما يؤكد كابتن (داني) أنه يساري معتدل، يفضل المعتدل الفلسطيني على المتدين اليهودي [90]، وأنه ضد تعذيب السجناء، وهمه دعم المهتمين بالسلام [91]، والانفتاح والحوار مع الشرق الأوسط مؤكدا أنه والفلسطيني أبناء عمومة [92].
يؤكد (بيني) أنه لا يؤمن إلا بلغة العقل، ولا يتكلم بشيء إلا إذا ثبت بالبرهان القاطع، وأنه لا يحب إرهاق المساجين [93].
ويعتبر (إيلان) نفسه رجل المهمات الصعبة، ويرسم صورة لليهود عامة مؤكدا ان هدفهم خدمة السلام [94]، ومنع الإرهاب وسفك دماء بريئة جديدة [95]، يبرر بذلك سجنهم لـ"عامر" كما يرسم هذا صورة للمخابرات الإسرائيلية، تؤكد ما ورد في القرآن عن تعالي اليهود وغطرستهم بدعوى الأفضلية التي منحها الله لهم [96]، فالمخابرات الإسرائيلية "لا ترفع يدها ولا تسلم" [97]، وهي الغالبة وكفة "عامر" لن ترجح فيها أبدا [98]، ولا أحد يستطيع هزيمتها [99]، لا سيما الفلسطيني "غير معقول ان أسمع هذا من صرصور مثلك… سأسلخ جلدك عن عظمك" [100]، فهي لا تخطئ العنوان، وتعرف المجرم من غير المجرم، "نحن طاقم متخصص يعرف أين يوجد النفط، وكيف يستخرج" [101]، كما يؤكد ساخرا أنها ليست مخابرات دولة عربية لا تعرف إلا الخطأ [102]. أما (شلومو) الذي يعتبره المحققون "أبو الصفقات" [103]، فيدعي محبته للفرح والانبساط، وعدم تأييده للتعذيب في التحقيق، بل هو يساري ليبرالي حر، يؤيد السلام [104]، كما يدعي تأييده لقيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل تتعايشان معا في أمن وسلام، ويتمادى في مسالمته مؤكدا تأييده لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم، وعودة المهاجرين اليهود من حيث أتوا، ولما كان هذا حلا غير واقعي، كما يرى، يقترح عودتهم إلى غزة ويهودا والسامرة، حيث تقام دولتهم هناك [105].
ومزيدا من إقناع "عامر" يهاجم جهاز المخابرات مؤكدا قذارته [106]، "لا يوجد للإنسان عندهم أية قيمة.. تصور يا عامر يرفضون الأخذ بتوصيات الطبيب، وتحويلك إلى المشفى.. يا له من إجرام.." [107]، فهم بلا قلوب، كما يرى، لا يرحمون أحدا، يقتلون وهم يشربون الشاي، ويلوكون النكات الماجنة [108]. كما يذكر، إضعافا لمعنويات "عامر" الذي يعاني أزمة صحية [109]، قصة سجين مات في أيديهم.
أما دولة إسرائيل فتبدو صورتها إيجابية في مرآة (شلومو) "من مزايا دولة إسرائيل أنها دولة قانون؛ الكبير يخضع للقانون قبل الصغير" [110]. وبهذا يرسم المحققون لذواتهم صورة إيجابية لإقناع "عامر" بحسن نواياهم وتأييدهم للسلام، ولا يترددون خدمة لمصالحهم، وتبييضا لصفحتهم أمامه لدفعه للاعتراف، لا يترددون في ادعاء معارضتهم للمخابرات الإسرائيلية، ومهاجمة أسلوبها الإجرامي كما فعل (شلومو).
الآخر في مرآة ذاته أمام ذاته:
وإذا ما خلا المحققون إلى أنفسهم، خلعوا أقنعتهم، وبدوا على حقيقتهم، فيعترف (داني)، أن ما يفعله الجيش الإسرائيلي بعد أحداث انتفاضة الأقصى جرائم جعلت الوجه الحضاري لإسرائيل في خبر كان، ورغم اعتباره لما يفعله الفلسطينيون جرائم، يؤكد أنها تظل فردية، وفي أبعد حدودها تدخل ضمن تنظيم إرهابي، أما جرائم اليهود فجرائم دولة، "أما جرائمنا فهي جرائم دولة، ومؤسسة عسكرية" [111].
كما يشير (شلومو) إلى طبيعة اليهود، وما جبلوا عليه من نكث للعهود، وكذب وسعي وراء أهدافهم بأية وسيلة مهما كانت قبيحة، وذلك في معرض حديثه مع نفسه عن "عامر"، كما يتصوره السارد، " يعرف اليهود حق المعرفة. يعرف أن مواثيقنا سرعان ما ننقضها قبل أن يجف حبرها، هذا الذي يعده به "إيلان" هل سيكون صادقا بوعده؟ إنه الكذب الفاضح، لا تتورع عن أية وسيلة مهما كانت قبيحة.." [112].
وهكذا يبدو الآخر في مرآة ذاته كاذبا ومنافقا، مجرما وليس حمامة سلام كما يدعي.
المحكمة الإسرائيلية:
رغبة في تخويف "عامر" وتهديده، يرسم المحققون صورة سلبية للمحكمة الإسرائيلية، فيؤكد (داني) أنها تأخذ بقانون "تامير" أي أنها تحاكم السجين بناء على اعترافات الغير، وتقرير المحققين السري، فلا يشكل عدم اعترافه حائلا دون الحكم عليه، [113] وهو ما يقوله (إيلان) لـ"عامر" "سأكتب تقريرك السري للمحكمة بيدي هذه.. وحتى لو لم تعترف، فهذا لن يعني شيئا سوى تعبك وشقاك" [114]، الأمر الذي يؤكده "عامر" " المحكمة تأخذ باعترافات الغير" [115].
ولا تفرق هذه المحكمة بين التهم الحديثة والقديمة، بل تحاكم عليها جميعا كما يقول "عامر" لـ"توفيق" الذي يعتقل بتهمة تنظيمه في الانتفاضة الأولى، "محاكمهم لا تفرق بين القديم والحديث" [116].
أساليب التحقيق بين الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية:
بين الانتفاضة الأولى والثانية يغير المحققون أساليب التعذيب والقمع، فيلجأون في انتفاضة الأقصى إلى التعذيب النفسي بدل التعذيب الجسدي الذي كان سائدا في الانتفاضة الأولى، بهدف اتباع الأسلوب الأجدى والأكثر نفعا لهم كما يؤكد (داني) " لم تقتنع الجهات الرسمية بتغيير أسلوب العنف الجسدي بهذا العنف النفسي، إلا لأنّ هذا الأخير أفضل نجاعة وأحسن جدوى" [117]، الأمر الذي يؤكده "عامر" [118]، و"توفيق" أيضا "أتصور أنهم لهذا السبب استبدلوه لما له من نتائج عملية أفضل بالنسبة لهم [119].
ورغم أن أساليبهم سياط واحدة مهما تعددت كما يرى "عامر" "بالنسبة لنا فكلها سياط مهما تعددت ألوانها، والصمود يتطلب الاستعداد لها جميعا" [120]، رغم ذلك نجده يفضل التعذيب الجسدي، ويرى في التعذيب النفسي أمرّ وأقسى؛ فالضرب والركل والوخز والشبح الذي يجعله ينزف دما، ويتقطع ألما من القيد، أرحم من كلام المحققين الممل الذي يمنعه من النوم لأسبوع وأكثر، "إنها على مساوئها أرحم من هذا الكلام الممل وهذه السماجة ثقيلةُ البرودة وعفنة الرائحة" [121]، فيتمنى أمام ما يجده الآن من تحقيق بارد ولامبالاة قاتلة [122]؛ إذ يترك في الزنزانة أسبوعا كاملا دون تحقيق، "ها هم الأوغاد يتركونني في الزنزانة أسبوعا كاملا، وحدي دون تحقيق، ماذا يريدون من هذه اللعبة التي تسمى زنزانة" [123]، يتمنى عودة الأسلوب القديم لما فيه من مجال لإبراز البطولة، وإثارة لروح التحدي والعناد القاسي [124] "ليتهم يعودون للأسلوب القديم" [125].
ومن ضمن ما تغير استخدام النظارة السوداء في هذه الانتفاضة على عينيّ السجين عند نقله من مكان لآخر، بدل الكيس الأسود النتن الرائحة "أما هذه النظارة فهي أكثر تحضرا من ذاك الكيس.. مكر على صورة تطور وارتقاء.. كان قديما، يجره رجل المخابرات من أسفل الكيس، كما تجر الدابة.. اليوم يؤخذ باحترام مغلف بالخديعة" [126].
خاتمــة:
بعد رصد ملامح الآخر وتتبع صورته في هذه الرواية، نلاحظ أن حديث الأنا عنه يتصف بالآتي:
التعميم؛ إذ يعمم عامر الصفات التي توصل إليها من خلال لقائه المباشر مع المحققين، في أقبية السجن، على اليهود كلهم دون استثناء. التركيز على سلبيات الآخر وإبرازها؛ إذ تبدو صورته سلبية بالمطلق، فلا تعثر على صفة إيجابية واحدة، حيث لا يدع "عامر" لفظا قاسيا، أو شتيمة إلا وألحقها به.
ورغم ذلك يبدو الأمر مبررا؛ فلم يعرف "عامر" إلا المحقق الذي اكتشف من خلال تجربة مباشرة معه، مدى همجيته ووحشيته، فصور ما رأى، ووصف ما حدث في أقبية السجون، فما ذكره من وصف للآخر، لا يعد مبالغة أمام ما لاقاه من عذاب على يديه، بل هو تصوير واقع، ونقل حقيقة كما يؤكد "الهودلي" في أول روايته، إذ يوجه شكره لسجناء عسقلان و (هدريم) لما " لهم من فضل في إخراج هذه القصة الواقعية من قلب المحنة وصميم الواقع الأليم".
إضافة إلى أن هذه الصورة السلبية للآخر ليست مستغربة في فترة حرب وقتال، تصدّر فيها العنف والقتل وسفك الدماء مشهد صراعنا معه.
مواضيع مماثلة
» فلسطينيو 48 يحذرون من انتفاضة ضد عنصرية اسرائيل
» اليهود قصفوا عجور ليلا
» أبو سليم: اليهود قصفوا عجور ليلا
» ازدياد وتيرة اعتداءات اليهود على العرب
» سنعيد الاقصى بالقران
» اليهود قصفوا عجور ليلا
» أبو سليم: اليهود قصفوا عجور ليلا
» ازدياد وتيرة اعتداءات اليهود على العرب
» سنعيد الاقصى بالقران
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى